الحمد لله المنزل في الكتاب: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)، والصلاة والسلام على المبلغ القائل: (تعلموا القرآن، وعلموه الناس...)، وعلى آله مصابيح الهدى واليقين، وأصحابه حملة القرآن ونجوم الدين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن مما اختصت به هذه الأمة المرحومة؛ إقبالها على تعلم كتاب الله وتعليمه، وحرصها على حفظه وتحفيظه، فيتلقى الناشئ من أبنائها أول ما يتلقى كلام ربه عز وجل، ويدخل إلى صدره نور آياته المباركات.
واليوم وبرغم ما يعصف بالأمة من محن وفتن؛ تبدو واضحة تلك العودة الراشدة إلى القرآن الكريم متمثلة في هذا الجيل القرآني الصاعد من البراعم المؤمنة شباب حلقات تحفيظ القرآن الكريم-، والتي بدأت تنتشر في ربوع العالم الإسلامي بفضل جهود أناس مخلصين وهبوا أنفسهم للقرآن الكريم، وبذلوا أوقاتهم لنشر أنواره، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
يسعون في نشر الهدى بعزيمة ** وقَّــادة وتـطلـع وإبـاء
لهم المهابة والجلالة والنـهى ** وفضائل جلت عن الإحصـاء
للحلقات القرآنية منزلة رفيعة، وفضائل عديدة؛ منشؤها القرآن الكريم منها:
* أولاً: أنها اجتماع على تلاوة كلام الله تعالى ومدارسته، والتلاوة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، فهي إذن أعظم مجالس الذكر وأطيبها، وأعلاها منزلة عند الله سبحانه، وهي الموصوفة في الحديث "برياض الجنة" جاء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: (حلق الذكر).
* ثانياً: أنها محل تنُّزل السكينة، وغشيان الرحمة، واجتماع الملائكة، وسبب ذكر الله في الملأ الأعلى، فقد ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده..).
* ثالثاً: أنها لقاء بين خيرة عباد الله في أرضه، وهمْ ما بين معلم ومتعلم، على مائدة أقدس كتاب على الإطلاق ألا وهو القرآن الكريم قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
كما أنها لقاء بين أهل الله وخاصته، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس) قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: (أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته)، ويكفي ذلك في بيان فضلها، فما ظنك بجلسة خير الأمة هم أهلها، وأهل الله وخاصته هم روادها.
* رابعاً: أنها تعاون على البر والتقوى امتثالاً لأمره تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى)، ولا أبر ولا أتقى من تعلم كتاب الله وتعليمه.
* خامساً: أنها مجال عظيم من مجالات التواصي بالحق والصبر؛ للنجاة من الخسران يوم القيامة يقول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، فالحق فيها كلام الله تبارك وتعالى، والصبر يكون على تعلمه وتعليمه، وتدبره وتطبيقه.
* سادساً: أنها اعتصام بحبل الله، وتمسك بالجماعة، وأمان من الفرقة لقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) في التفسير أنه القرآن، وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا، كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك، ومن ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم عصمة فقال: (إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به) لأنه يعصم الناس من المعاصي.
* سابعاً: أنه محطات لاكتساب الأجر، وتحصيل الثواب، والتزود بالحسنات لقوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
واكتساب الحسنات يستلزم التخفف من الخطايا لقوله تعالى في كتابه العظيم: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ).
* ثامناً: أنها ميدان فسيح من ميادين تزكية النفوس، وتهذيب الأخلاق، واكتساب الفضائل عملاً بقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)، ولا شك أن القرآن الكريم هو أساس هداية الأنفس، وصلاح القلوب يقول سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).
كما أنها مظهر منشود للقدوة الحية أمام النشء المسلم، هذه القدوة التي حث الله جل وعلا عباده على اتباعها متمثلة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، ووراثه من العلماء العاملين، وحفاظ القرآن الكريم ومعلميه من بعده قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ).
* تاسعاً: أن فيها قياماً بواجب تبليغ القرآن الكريم للناس، ونشر آياته وأحكامه وعلومه؛ بين الأمة امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني، ولو آية..).
* عاشراً: كم أن فيها نجاة من أليم المعاتبة لمن هجر القرآن الكريم يوم القيامة، وشديد الوعيد لمن كتم العلم، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقرآن مَهْجُورًا)، يقول ابن القيم في كتابه الفوائد: "هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه؛ وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقرآن مَهْجُورًا)، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض".
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة).
* أحد عشر: أن فيها عظيم أداء للواجب الشرعي الكفائي، ورفع للإثم عن المسلمين عامة بالتصدر لحفظ القرآن الكريم أولاً، ثم لتعلمه وتحفيظه للناشئة وعموم المسلمين ثانياً.
وهذان الأمران حفظ القرآن الكريم وتحفيظه هما من فروض الكفاية، فإذا قام بهما قوم يبلغون حد التواتر فلا يتطرق إلى القرآن التبديل ولا التحريف سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثم الجميع.
* اثنا عشر: أن حافظ كتاب الله ومعلمه داخل لا شك ضمن قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، وذلك بجمعه الدعوة إلى الله بتعليم كتابه، وتبليغ آياته، وبين العمل الصالح المبارك بتعاهد القرآن وتدبره، وتطبيقه منهجاً عملياً في واقع حياته، وهذا أحسن القول، ومنتهى الفضل.
روى الترمذي عن أبي أمامة مرفوعاً: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضيين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت؛ ليصلون على معلم الناس الخير) والصلاة ها هنا بمعنى الدعاء بالرحمة والمغفرة، والرضوان من الله تبارك وتعالى.
والفضائل في هذا المجال كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال:
أ- كونه من خير الناس بانتسابه إلى هذه الحلقات المباركة لقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
ب- أنه من أهل الله وخاصته باختصاصه في تعليم القرآن وتحفيظه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله من الناس آهلين) قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته).
ج- ترقية في درج الجنان بحسب أخذه من القرآن الكريم فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
د- كونه مع السفرة الكرام البررة وهم الملائكة يوم القيامة فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة...) الحديث.
هـ- يلبس والداه يوم القيامة تاجاً ضوءه أحسن من ضوء الشمس للحديث الوارد عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن وتعلم وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور ضوءه مثل ضوء الشمس، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا، فيقال: بأخذ ولدكما القرآن)، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى:
فيا أيها القاري به متمسكاً **** مجلاً له في كل حـال مبجلاً
هنيئاً مريئاً والداك عليهما **** ملابس أنوار من التاج والحلا
فما ظنكم بالنجل عند جزائه *** أولئك أهل الله والصفوة الملا
فيا معلم القرآن: ها قد شققت طريق النور، وسلكت درب الفلاح، فلتكن هذه المعالم حادٍ يدفف انطلاقتك نحو غد صاعد، وجيل واعد، أنت من تقوم على تنشئته وتربيته، فأسال الله التوفيق فما نحن لولاه، وليرعاك الله، ويكلل جهدك، وتقبل مني أصدق المنى، ووافر الود والحب لك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.