قد يلحظ القارئ لفظة (المعايشة) هُنا, وقد يُمكن استبدالها, وهذا صحيح, ولكن إردافها مع التربوي ليُصبح الموضوع (المعايشة التربوية) له شأن آخر- بإذن الله - .
إن المُربي وأي عامل بطبيعته يُحب أن يكن التوفيق الذي يجنيه المتربي عن طريقه (المربي), وذلك طلباً لبلوغ أعلى الدرجات عند المولى-تبارك وتعالى-, وهذا كما هو معلوم العمل المتعدي..
ولسنا في خوض موضوع قد تم طرحه (الهدي والقدوة الحسنة), وما له من آثار ونتاج على المربي, ومن معه... إلا أننا سنلقي الضوء على صفة بارزة عند المربي الناجح المُوفق, وليست بعيدة عن الأولى ..
إن التعايش والعيش مع المتربي في أبرز شؤونه الاجتماعية, والعبادية, وغيرها من أجل ما يراه المتربي من مربيه, وتأمل قول الله جل في علاه : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ). ومن ثم جاءت الصفة العظيمة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). وها أنت تطالع قوله سبحانه : (مُحَمَدْ رَّسُولُ الله وَالَّذيِنَ مَعَهُ أَشِدَاءُ عَلَى الكُفَارِ رُحَمَاءُ بَينهُم تَرَاهُم رُكَعَاً سُجَدَاً يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ الله وَرِضوَنَاَ سِيمَاهُم في وُجُوهِهِم مّن أَثَرِ اَلسُّجُودِ..) .
إن هذه الآيات وغيرها تُترجم لنا الوجود الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم مع من حوله, فالتزكية بمعنى التأديب والتربية, واللين من أجل التراحم في التعامل, والحظ مدح الله للنبي ومن معه وكيف هم ؟ والناظر لسيرة المصطفى وموروثه من السنة يجد هذا العيش التربوي, وقد دعى الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم, أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم), وحين كان النبي موجوداً مع الصحابة كان هناك التعليم والتوجيه, ومن ثم رؤيت الابتسامة, وعُني بالمبادئ, وشوهدت الغضبة, وُتمعن في الهدي, واُبتعِد عن المشين, وهذا من نتاج المعايشة التربوية بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه ويستمع حديثهم في الجاهلية ويستمع لبعض أشعارهم ولم يُر إلا متبسماً, تجده يمازح بعضهم كما قال عن زاهر رضي الله عنه : (من يشتري العبد؟), بل وأدلف بعضهم على رحله, وعلم بعضهم بانفراد عليه الصلاة والسلام, بل ولم يتوقف ذلك عند الكبار, بل حتى الصغار حين ذكر أنس رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُخالطهم, وقال أنه قال لأخي وكان معه طائر صغير: (يا أبا عُمير مافعل النُغير), وهذا أحد الصغار يأكل مع النبي في صحفته, وقد وجهه النبي لآداب هي العُليا في آداب الطعام.. كان عليه الصلاة والسلام مشاركاً لأصحابه في أحزانهم, وأفراحهم, وكان يُشاركهم في الغزوات, وشاركهم حفر الخندق, ويسأل عن حالهم, و لم ينسهم من دعائه.. وإن لزم الأمر عنف بعض أفعالهم .. وهنا قد وجد الصحابة من يستمع لهم, ويحاورهم, ومن بابه مفتوح لهم ...
وأقول بئس المُربي! الذي تتكلف الأرواح وصوله وهو قريب ..
أين بعض المربين من موقف حنظلة حين قال : نافق حنظلة ! ولقي أبا بكر، فما كان منهما إلا أن ذهبا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . ولو لم يكن بابه مفتوح لما ولجوه . وكان حتى الأعراب يجدونه, والصغار يلقونه, وأصحابه يُعايشهم ويُعايشونه ... نعم التربية, ونعم التزكية ..
* وإن للمعايشة أثراً عظيماً في حياة المتربي, ومن ذلك :أ) هُناك ما يُسمى بالمنهج الخفي الذي يتعلمه المتلقي من خلال الأخلاق والطباع وردود الأفعال التي يُشاهدها, وذلك دون علم من المربي, وهذه نجدها متجسدة في بعض ما كان يرويه الصحابة عن الرسول في أقواله, وأفعاله, ولبسه, وردود فعله, بل إيماءات وجهه الشريف عليه الصلاة والسلام .
ب) تجعل هُناك طرقاً وضيئة متصلة مع المُربي حيث تسهل الاستشارة, ويظهر الاقتناع بمبادئ المُربي التي يدعو لها, ومن ثم تجعل هُناك متنفسا من المتربي قد لا يجده إلا عند المربي, وهنا نذكر ابن القيم رحمه الله حين يذكر عن نفسه ومن معه أنهم إذا تغيرت عليهم أنفسهم ذهبوا إلى شيخ الإسلام رحمه الله فلا يرجعون إلا وقد تغيرت نفوسهم وزاد إيمانهم .. وهذا برهان في أن أبواب العُلماء حينئذ كانت مُسرجة لربيبي العلم وطلابه ..
* ونختم الموضوع ببعض الإشارات :1) على المربي أن يكن صاحب قدوة في تعايشه, فلا يهبط إلى درجة السفاهة, وتهوين القيم مما يجعل هناك تماهي للأثر المرجو, وممايُعين على هذه السفاهة (إضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه، اللهو الكثير، كثرة التنازلات، الصحبة الفردية المملة، عدم الانضباط مع المردان ...) وغير ذلك مما يجعل هناك عواقب وخيمة, ومن شأن المربي القسط في كل شيء, والحذر من الشبهات .
2) على المربي أن لا يتكلف العيش مع أحبته, ومما أعجبني من خواطر أحدهم, حين قال لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم تلاميذ وطلاب, وإنما أصحاب . ا.هـ
وما وجدنا من عيشه معهم إلا صحبة الكرام, وجدنا التواضع, والعناية, والتوجيه, والكثير الكثير, ونحن من باب أولى إن أردنا أن نخرج أكفاء ..
أيها المربي للنظر لأحبابنا كأصحاب ثم ليكن التوجيه والعيش على ما رأيناه من القدوات, وسمعناه من السراة..